بقلم / نارام سرجون -
لا أدري أين أصنّف الآن حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري.. ولا أعرف كيف يمكن أن ينصفه التاريخ.. لقد حيرني هذا الرجل.. فبالأمس فاجأني جدا وداهمني واجتاح جهلي بعلمه.. وعرفت فيه جانبا لم أعرفه من قبل.. فهو فيلسوف وحكيم.. وهو روائي وقاص.. وهو سياسي ودبلوماسي.. وهو ثلاثة عمالقة اجتمعوا في رجل واحد.. لقمان الحكيم، وسقراط الفيلسوف، وهوميروس صاحب الإلياذة..
فبعد أن سمعت منه إلياذة (الذئب والنعاج) أدركت ما لم أدركه.. وعرفت بأنني عرفت مالا أعرف.. وأن سر الخلود ليس في بلاد الرافدين بل في قطر.. وبأن العمر الذي خشيت عليه من الضياع لم يضع.. وحزنت أننا لم نقدّر هذا الرجل ولم نعطه ما يستحق.. وأننا كدنا نثب عليه ونقتله متسرعين كما قتلنا محي الدين بن عربي الذي قال إن معبودكم هذا تحت قدمي.. فإذا بصاحب "الذئب والنعاج" يجلس بحكمته في مكان محي الدين بن عربي وهو يقول إن معبودكم هذا تحت قدمي (وأحسب أنه يعني النفط والغاز).. وأنكم نعاج!!.
لقد فاتني من هذا العمر اكتشاف هذه الإلياذة العربية مبكرا وهذا الهوميروس العربي بدشداشته القطرية.. فحديثه استغرق دقيقتين لكنني بعده رميت بمكتبتي إلى النار وأحرقتها بما فيها لشعوري باضمحلال اللغة والفكر أمام فكر (أبي النعاج).. أحرقتها كلها كما فعل أبو حيان التوحيدي في آخر عمره.. وبدأت أتساءل إن كان أبو حيان قد أحرق كتبه لأنه بعد كل علمه ومؤلفاته ظهر في عصره متحدث وفيلسوف من آل بن جاسم جعله يحتقر كل ما قرأ وكل ما كتب أمام عصارة العلم والفكر والأدب التي تجلت في حكيم قطري ظهر في ذلك الزمان.
ولاشك أن حمد بن جاسم سيرسل لي شيكا بعد هذه المدائح التي قد تعني انشقاقي إلى جمهوريته الديمقراطية (كما يفعل مع الفارّين إليه).. ولكن الهوينى فلا تستعجلوه لأن عليه أن يقرأ بقية المقال فلعله لا يرسل شيكا بل يخلع عقاله ولا يضعه قبل أن ينازلني في مبارزة شعرية وأدبية في بيته في مستوطنة نهاريا شمال فلسطين لأنه (شاعر صحراوي) لا يجيد المبارزة بالسيوف أو بالمسدسات على طريقة الفرسان بل يجيد الطعن في الظهر وإطلاق النار في الظهر على طريقة الأنذال وعهدنا بهم..
لقد صارحنا -أطال الله عمره- بأننا نشهد اجتماع النعاج من هجمة الذئب والذئاب.. وكان حكيما وعاقلا كما عهدناه ولم ينفلت نزقه ولسانه الطويل بالتهديد ولم يرفع سبابته في وجه أحد بل اكتفى بأن يكون حملا أو كبشا بلا قرون وبلا خصى.. أو نعجة بين النعاج.. وأحسست فجأة وأنا تطفر عيناي بالدمع من قوة البلاغة أنني سمعت.. صوت ثغاء الحملان في الجلسة وصرت أدقق في رؤوس المجتمعين علّي أحظى بلحظ القرون التي كشفها لنا حمد بن جاسم.. هوميروس العرب وقاصّهم الأول "أبو النعاج"..
سيكون من الإجحاف أن يكون لدينا لقب (أبو العلوج) الذي أطلقه إعلام الخليج العربي على وزير الإعلام العراقي الأشهر محمد سعيد الصحاف للسخرية منه والتشفي بهزيمة العراقيين أمام الأمريكان.. من الإجحاف ألا نعلق في رقبة حمد بن جاسم لقب (أبو النعاج) وحبيب العلوج.. وهو لقب يلبسه جدا ويناسبه جدا خاصة أنه متحمس جدا للربيع العربي وبرسيمه واخضرار أرضه حيث العشب والكلأ "الأخضر".. وسنناديه مستغيثين منذ اليوم كما كان فقراء العرب ينادون مستغيثين بعروة بن الورد وهم يقولون (يا أبا الصعاليك أغثنا).. وسيكون نداء أمة العرب لعروة بن الورد القطري حمد بن جاسم: يا أبا النعاج أغثنا..
هل نرشح معاليه لجائزة نوبل في الأدب ونرمي بأدونيس إلى الصفوف الخلفية؟ إننا على أبواب جائزة نوبل ثانية في الأدب بعد جائزة نجيب محفوظ ينالها العرب عبر عبقرية (الذئب والنعاج).. ولاشك أن فيصل القاسم الذي لا يعرف (ادونوس!!) يعرف بالتفصيل فلسفة (الذئب والنعاج) ويعرف كاتبها الذي يكتب له الشيكات.. وسيستهل إحدى حلقاته التي لن أراها بالطبع بالقول بحماس: إن العرب نعاج.. وإسرائيل هي الذئب.. يقول أحدهم!!..
هذا الأدب الإنساني الرفيع للروائي العالمي حمد بن جاسم لا يضاهيه أدب غابرييل غارسيا ماركيز صاحب (الحب في زمن الكوليرا).. وصاحب (مئة عام من العزلة).. فبعد عبقرية "الذئب والنعاج" عرفنا لماذا وصلنا إلى مرحلة (العرب في زمن الكوليرا) أو (العرب في زمن النعاج).. ولماذا دخلنا عبر بوابة الربيع العربي إلى (مئة عام من العزلة)..
إن نجيب محفوظ في "ثلاثيته" الشهيرة وفي رواية "أبناء حارتنا" لا يضاهي في إبداعه إبداع رواية (الذئب والنعاج).. وقد ظهرت قامة أدبية رفيعة تكتب من قطر ثلاثية جديدة هي: "الذئب القرضاوي في قصر الشوق".. و"عزمي بشارة بين القصرين".. والسكرية "موزة في غزة".. وأخيرا العمل المميز.. "نعجات حارتنا".. لحمد بن جاسم هوميروس الشرق (أبو النعاج)..
لا أدري سبب هوس السياسيين العرب بإظهار ميول الأدب والشعر والقصائد والروايات ولا يكتبون المذكرات عن الأزمات.. طبعا هذا ليس عيبا لكن السياسة لا تحتاج خيالا بل واقعا وتحتاج انصرافا إلى العمل المتواصل لحل معضلات المستقبل قبل مشكلات العصر واللحظة الراهنة.. فهذا هو سبب التفرغ للعمل السياسي.. فشاعر مثل نزار قباني قرر ترك العمل الدبلوماسي والتفرغ للشعر احتراما للدبلوماسية التي لا تعرف الرومانسية بل الواقعية.. واحتراما للشعر الذي لا يستطيع أن يبقى طويلا في الواقع دون رومانسية..
فهناك عند العرب وزير نفط عربي كان يكتب الشعر الغنائي للفنانين والفنانات.. ولا أدري إن كان يعرف العلاقة بين سعر النفط وسلة أوبك والنمو الاقتصادي في القرن الواحد والعشرين.. وكان لدينا وزير دفاع عربي كان يؤلف الشعر وينظمه ويكتب في كل صنوف الأدب.. وكان لدينا كذلك الرئيس الراحل صدام حسين الذي في أوج صراعه مع الغرب وأثناء الحصار خرج علينا برواية (زبيبة والملك).. ثم تلاها برواية (اخرج منها يا ملعون).. فكان أن دخل فيها الملعون وملاعينه.. وصرنا جميعا نعيش زمن (موزة والأمير) بدل زبيبة والملك..
وكان الزعيم الراحل معمر القذافي يكتب فقرات الكتاب الأخضر وهذا طبيعي فهو كتاب ونظرية في السياسة لا يعترض عليه أحد حتى وإن كان يشبه في نجاحه نجاح كتاب أحمد داود أوغلو الذي كتب فيه عن (صفر مشاكل).. لكن الزعيم القذافي لم يقدر على مقاومة إغراء الانتماء لعالم كتّاب الروايات فصدرت عنه رواية بعنوان غريب هي (الأرض الأرض.. والقرية القرية.. وانتحار رائد الفضاء)..
حمد بن جاسم لاشك لم يصدر رواية ولكن حديث "الذئب والنعاج" ملفت للنظر لأنها إرهاصات روائي عربي قادم.. ونهوض لفيلسوف من فلاسفة الغاز.. وولادة حكيم ولقمان العرب.. كلها دخلت في وجداننا وتاريخنا عبر بوابة غزة وحديث (الذئب والنعاج).. وسأساعده في اختيار عنوان روايته القادمة أو حديثه القادم وأمثولاته.. فبدل (الذئب والنعاج) يمكنه أن يتحدث أو يكتب عن (نعاج بلا أسد!!)..أو (الأسد والنعاج).. أو (ذئاب وأسود ونعاج).. أو يمكنه أن ينسج على نمط رواية القذافي ووزنها عنوانا مثل ( الأسد الأسد.. الذئب الذئب.. النعاج النعاج.. وانتحار رائد الفضاء محمد فارس)..
بالرغم من كل شيء فإن حمد نطق بالحقيقة وكنا نرى نعاجا مجتمعة تتباكى وتهدد بسحب مبادرة عربية لم يترك الذئب زاوية بها لم يتغوط عليها.. وبالرغم من كل السبابات التي رفعت في مصر ورفعها الإخوان الذين حلفوا بمليونيات اللحى بأن مصر تغيرت فإن الحقيقة هي أننا دخلنا رسميا عهد النعاج والثغاء.. وأن قبضايات الإسلاميين وأردوغان لم تعد لهم حناجر تهدد إسرائيل لأن حناجرهم مصنوعة من سكر وذابت من كثرة الصراخ على السوريين ومن كثرة النفاق ومن كثرة الهدير.. وتعجبت إن كان أردوغان ترك صبره وحنجرته وأعصابه النزقة في رحلة استجمام أو أنه نسيها في السرير أو الحمّام أو على حدود سورية.. كل هذا الأردوغان العصبي لم يقدر أن يرسل بارودة واحدة إلى غزة ولا حبة خردق!!!.. وإن أقصى ما فعله الإسلاميون هو رحلات السياحة الرسمية إلى غزة.. وكل هذا المرسي لم يقدر أن يخرج من ثياب حسني مبارك وجزمته ولم يردع إسرائيل التي لم يعد خافيا أنها لا تخشاه وأن الرجل لم يأت بثورة بل بكامب ديفيد ذات لحية وبحسني مبارك "مؤمن" ويطلق اللحية.. والحقيقة أن إسرائيل لا تخشى بحرا من اللحى الإخوانية يحيط بها.. بل تخشى غضب آلهة الصواريخ.. لأن القصف بالصواريخ غير القصف باللحى والسبابات.
ليس عندي شك أن الحضور في ذلك الاجتماع العربي (جلسة النعاج) كان لديه شعور أنهم أغنام.. فغياب الأسد ورجال الأسد السوريون ترك جوا عاما من الشعور بشعور النعاج.. وربما يعيدنا هذا إلى مقولة نابوليون بونابرت الشهيرة: أن يقود أسد جيشا من الوعول.. أفضل من أن يقود وعل جيشا من الأسود.. وترجمتها العربية التي تليق بهوميروس القطري هي: (أن يقود أسد جيشا من النعاج.. أفضل من أن يقود خروف جيشا من النعاج).. ونترك لفيصل القاسم أن يشرح لهوميروس العرب معنى ذلك بدقة وبلغة السوريين.. ويستطيع هوميروس أن يستعين بسفير إسرائيل في قطر.. عزمي بشارة.. ليوضح المعنى الفلسفي ويغوص "في العمق" مع أخيه الصغير علي الظفيري..
في الحقيقة كنت بدأت أفتقد غياب الزعيم معمر القذافي الذي كان حضوره إلى أي قمة عربية أو اجتماع دولي يضفي عليه جوا من الإثارة والمتعة بسخريته اللاذعة ونزقه وصراحته الصادمة وعصبيته.. وعدم مجاملته لأحد وخاصة (لأبو متعب) والخلايجة.. ولكن منذ أن برزت نجومية القطريين من الخوارزمي حمد بن خليفة ومعادلة (3%) إلى هوميروس الشرق بن جاسم (أبو النعاج).. فإن اللقاءات العربية ستصبح أكثر إثارة ومتعة وثرية بالثقافة والجزالة اللفظية والعلم والمعرفة.. وبالطبع الكوميديا.
لن يكون هناك ذلك المشاغب والزعيم الأخضر النزق القادم من الخيمة والصحراء والزنقات.. بل سنسمع حكمة وموعظة وشعرا وحكايات ما قبل النوم عن ليلى والذئب (وغزة والذئب).. وعن الذئب والنعاج.. وصرت بصراحة بانتظار مسرح الإثارة والكوميديا السوداء في الجامعة العربية لأضحك في هذا الزمن الكئيب الأسود.. أضحك من تأتأة نبيل العربي وعدم استقراره النفسي.. وأضحك من بلاغة الخلايجة والسعوديين الذين يقرؤون بياناتهم الفصيحة كما لو أنها كتبت قبل عهد أبي الأسود الدؤلي بلا تنقيط ولا حركات ويستعملون الفاصلة في وسط الكلمة.. ويقصون نصف الجملة بالمقص والنحنحة والسعال ويقذفون بها إلى بداية الجملة التي تليها.. وعندهم لا يعرف المبتدأ أين هو خبره ولا يعرف الخبر لماذا يلبس حذاء المبتدأ.. ولا يعرف حرف الجر ماذا يجر.. ولا إن كان هو نفسه سيجرّ بالحبال ويسحل على السطور..
وبين هذا المجال اللغوي الأنيق والرفيع سنسعد منذ اليوم بسماع (نهج البلاغة) القطرية.. بلسان هوميروس.. أبو النعاج.. الذي لم يكن قريبا إلى قلبي مثل ذلك اليوم الذي انطلق فيه على سجيته الرعوية وكان يتحدث بعفويته كطفل حافي القدمين (كما يقول نزار قباني) عن "غزة والذئب".. ويتأوّه بخضوع وإذعان للذئب الذي أكل جدة ليلى (فلسطين).. وينهل من ثقافة الراعي الكذاب..
ماهذه الـ"قطر"؟؟.. صارت تلبس ثياب بغداد الشرق وترتدي وشاح دمشق الأموي.. لأن فيها حمد بن خليفة بدل المأمون وفيها قاعدة العيديد بدل دار الحكمة.. فأميرها صاحب اللوغاريثمات الخوارزمية ومعادلة (3%).. ووزير خارجيتها هوميروس أبو النعاج.. وأميرتها موزة التي تدير الممالك الإسلامية مثل (شجرة الدر).. وفيها القرضاوي ظل الله.. وعزمي بشارة تلميذ أفلاطون.. وفيصل القاسم روح جان جاك روسو.. وقريبا أبو الوليد خالد مشعل بن الوليد.... أهذه قطر.. أم أمّ البشر..؟؟!!.
بالرغم من أنه ليس زمن النكتة ولا الدعابة ولا خفة الدم في زمن إراقة الدم في عالمنا العربي وشرقنا فإنني لم أجد غضاضة من أن أداعب شنبات هوميروس العرب (أبو النعاج).. وأن أعطيه بعضا من حقه كأديب وفيلسوف وحكيم لا يشق له غبار.. وأن أهديه عنوان رواية الراحل صدام حسين.. (اخرج منها يا ملعون) لأننا أدباء وشعراء وعشاق قصة وهو يفهم بالأدب ولغة الشعر والقصة والروايات.. وأتمنى أن يفهم ماذا عليه أن يفعل وأن يستجيب لطلبي.. ويخرج منها.. ملعوناً ابن ملعون.. لننظف طرقات الشعر والأدب والمقاومة من روث هوميروس القطري (أبو النعاج) وبقايا أعشابه وبعره.. ولننظف الشرق من نعاجه وذئابه.. ونكتب إلى صدام حسين في السماء (سنخرج منها الملعون.. ابن الملعون).. ونكتب إلى نابوليون وحفيده هولاند فنقول: إن النعاج لن تقود الأسود في الشرق.. وإن الخيول البرية والأيائل ستدهس الذئاب.. وأبناء الذئاب.. والملاعين أبناء الملاعين!!.
بقلم / نارام سرجون