الأحد, 26-سبتمبر-2010
لحج نيوز - 
وبعد 40 عاماً من الوداع نتأكد أنه ساكن فيناً.. حولته سنوات البعاد من رجل إلى معنى.. لا يحتاج «ناصر» إلى مناسبة للكتابة عنه.. فما بالك إذا تعددت المناسبات وتنوعت الأسباب للحديث عن لحج نيوز/بقلم:المفكـر السياسى د.علـى الدين هلال -

وبعد 40 عاماً من الوداع نتأكد أنه ساكن فيناً.. حولته سنوات البعاد من رجل إلى معنى.. لا يحتاج «ناصر» إلى مناسبة للكتابة عنه.. فما بالك إذا تعددت المناسبات وتنوعت الأسباب للحديث عن جبل الكبرياء وأمير الفقراء..

هذه الصفحات هى مرثية للزعيم.. فى ذكرى مرور 40 سنة كاملة على غيابه الطاغى.. وهل يغيب فارس الأحلام؟!

يعيش جمال حتى فى موته!

اسم جمال عبدالناصر سوف يبقى احدى منارات التاريخ الحديث.. رجل من الناس, وهب حياته للشعب والوطن.. لم يتمتع بملذات الحياة وعاش نظيف اليد.

أربعون عاماً مضت على وفاة الرئيس جمال عبد الناصر ومازال الرجل وما مثله من مبادىء وقيم وأفكار محل خلاف وجدل ونقاش .. ومازالت سيرته وسياساته محل بحث ودراسة .. ومازالت تصدر عنه كتب كان أحدثها الكتاب الذى نشرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة باللغة الإنجليزية بعنوان «ناصر حياته وزمانه» تاليف الكاتبة آن الكسندر . ولعل ذلك يرجع إلى أن عبد الناصر لم يكن رئيساً تقليدياً ولم يكن زمانه زماناً إعتيادياً .. كان الرجل زعيماً إستثنائياً بمعايير الزعامة والقيادة ، وكان زمانه ثورياً بمعايير سرعة التغيير والصدام والمواجهات . لذلك ، أصبح الرجل وزمانه محل اختلاف ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ .

وقصة الثمانية عشر عاماً ( من 1952 إلى 1970 ) التى مارس فيها عبد الناصر حكم مصر مليئة بالعبر والدروس . ولم تكن عادية فى تاريخ الشعب والوطن بل كانت فترة إنتقال كبرى ومرحلة تحول عظمى شهدت انتصارات وهزائم .. لحظات فرح وبهجة وأوقات حزن وأسى ..

والصور التى تختزنها الذاكرة عن عبد الناصر عديدة ومختلفة وأشير منها إلى خمس صور على سبيل المثال : الصورة الأولى فى يوليو 1956 – وهو العام الأول من رئاسة عبد الناصر للجمهورية المصرية – وهو يعتلى منبر الأزهر الشريف متحدثاً ومؤكداً على حقوق مصر فى تأميم شركة قناة السويس ومخاطباً المصريين بأننا سنقاوم وسوف نحارب من أجل حقوقنا .

والصورة الثانية فى عام 1958 فى دمشق وبعد إبرام الوحدة بين مصر وسوريا فى 28 فبراير ونشأة الجمهورية العربية المتحدة . وفى أول زيارة له قام السوريون بحمل سيارته وكان مشهداً فريداً لم يتكرر . والصورة الثالثة فى يونيو 1967 بعد الهزيمة العسكرية وكانت أول مرة يرى فيها المصريون زعيمهم فى صورة الأسد الجريح والتى تحدث فيها لأول مرة عن تركه مسئولية الحكم .

والصورة الرابعة فى 28 سبتمبر 1970 وهو فى فندق هيلتون النيل يتفاوض مع الزعماء العرب فى مؤتمر القمة الذى انعقد لإنهاء الأزمة بين الأردن والمقاومة الفلسطينية وظهر فيها عبد الناصر مرهقاً وفى غاية الإعياء . أما الصورة الخامسة والأخيرة فهى مشهد الجنازة المهيبة التى شارك فيه مئات الالاف من بسطاء المصريين ... كانت مشهداً رائعاً ودع فيه المصريون زعيمهم الذى ارتبطوا به لسنوات .

ومع تعدد الصور واختلافها ، تختلف التقييمات عن عبد الناصر وماذا يبقى منه للتاريخ ؟ ويقال عادة أن التقييم الموضوعى لأى حدث أو شخص ، يكون ممكناً بعد وفاة كل المعاصرين لهذا الحدث أو الشخص فمرور الوقت وعدم وجود إنحيازات أو أهواء شخصية تعطى الفرصة للحكم الموضوعى على الأمور . ومع أن ذلك لم يتحقق بعد ، فإن مرور أربعين سنة على وفاة عبد الناصر يتيح قدراً أكبر من الموضوعية ، فالظروف تغيرت بشكل حاسم وعدد سكان مصر اليوم يتجاوز الثمانين مليوناً مقارنة بالثلاثين مليون فى 1970... وشكل النظام السياسى تغير من التنظيم السياسى الواحد ( الإتحاد الإشتراكى ) إلى التعدد الحزبى ، وشكل النظام الاقتصادى تحول من اقتصاد يسيطر على مقدراته القطاع العام إلى القطاع الخاص وتغيرت أيضاً سياسة مصر الخارجية ...

وكما تغيرت مصر ، تغيرت المنطقة العربية بفعل الثروة النفطية وتغيرت موازين القوى الاقتصادية فى المنطقة ، وتغيرت أدوار إسرائيل وتركيا وإيران ، وتغير ايضاً العالم مع تحلل الإتحاد السوفييتى ودول الكتلة الشرقية . والخلاصة أنه لم يعد هناك مجال للدعوة إلى استعادة المؤسسات والسياسات التى شهدها عهد عبد الناصر فمؤسسات الحزب الواحد وسيطرة القطاع العام على الاقتصاد لم تعد واردة ، ولم يعد هذا محل خلاف فى التيار الرئيسى للعمل السياسى والحزبى فى مصر . ولكن ما يتبقى هو النقاش حول المبادىء والأفكار التى دافع عنها عبد الناصر وعمل من أجلها والتى أصبحت جزءاً من نسيج الثقافة السياسية ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة فى بلادنا ..

فهناك أولاً قيمة العدل الاجتماعى وتكافؤ الفرص ومسئولية الدولة فى مكافحة الفقر وحماية محدودى الدخل . هذه القيمة ترسخت بشكل لم يعد ممكناً لأى حزب سياسى يتطلع إلى تأييد المواطنين أو يحرص على تحقيق الاستقرار السياسى أن يتجاوزه أو ينكره . وصحيح أنه ظهرت فى بلادنا – ولفترة - أصوات الرأسمالية المتوحشة وما يسمى باجماع واشنطن والليبرالية الجديدة التى ركزت على مفاهيم الانجاز والكفاءة الاقتصادية وتحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادى دون اهتمام مماثل بقضية التشغيل وبحسن توزيع عوائد النمو ولكن سرعان ما تراجعت هذه الأصوات لرفض المجتمع لها . ومازالت أهم هموم المواطن المصرى فى كل استطلاعات الرأى العام هى المحسوبية والوساطة وعدم تكافؤ الفرص . لقد كرس عبد الناصر لدى المصريين البعد الاجتماعى للمواطنة وأن المواطن له حقوق اقتصادية واجتماعية وأصبح ذلك حزءاً من التكوين الثقافى للمصريين اليوم .

وهناك ثانياً أن مصر دولة عربية يرتبط قدرها ومستقبلها بالمنطقة العربية وأن الدور الريادى الذى تقوم به يتم فى السياق العربى . وهذا المعنى له أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والاستراتيجية . وصحيح أيضاً أن أصواتاً أرتفعت بأن « مصر أولاً» وهذا أمر طبيعى فى كل الدول. فبالنسبة للأمريكيين فإن أمريكا أولاً وللروس فإن روسيا أولاً وللاردنيين فإن الأردن أولاً بمعنى أن سياسات الدولة الداخلية والخارجية تسعى لتحقيق أمنها ومصالحها الوطنية . وما كرسه عبد الناصر هو أن أمن مصر ومصالحها العليا يرتبطان بالمنطقة العربية. والعلاقة الوثيقة بين مصر وغيرها من البلاد العربية تسندها العاطفة والثقافة والمصلحة والأمن .

وهناك ثالثاً معنى الكرامة الوطنية والاستقلال الوطنى واتباع سياسة خارجية مستقلة سميت بالحياد الإيجابى ثم بعدم الإنحياز وجوهرها أن المواقف الخارجية للدولة تنبع من مصالحها وليس بسبب التحالف مع دولة كبرى هنا أو هناك. ولعل هذا المعنى هو من أكثر المعانى التى ارتبطت بشخص جمال عبد الناصر وسعيه لاستقلال مصر وعدم السماح للقوى الكبرى أو للآخرين عموماً بالتدخل فى شئونها ، ولم يتردد فى الدخول فى مواجهات سياسية ومعارك لتحقيق هذا التوجه فكان كسر الحصار الذى فرضه الغرب على مصر لمنعها من الحصول على سلاح متقدم ، واعتراف مصر بالصين الشعبية فى يناير 1956 ثم المواجهة مع البنك الدولى والغرب بشأن بناء السد العالى ، وقرار تأميم شركة القناة الذى أدى إلى مواجهة سياسية ودبلوماسية والعدوان الثلاثى على مصر فى 29 أكتوبر 1956 ، وكان الدعم المصرى لحركات الاستقلال والتحرير الوطنى فى المنطقة العربية وإفريقيا تأكيداً لحق الشعوب فى تقرير مصيرها والحصول على استقلالها .. والأحداث كثيرة ومعروفة ...

وعندما يستعيد المرء خطابات جمال عبد الناصر يجد أنها تمتلئ بكلمات العزة والكرامة وحق الشعوب فى نيل استقلالها ويجد عبارات قوية ضد الإستعمار والتدخل الأجنبى ومع ضرورة الثورة ضد الظلم والاستعمار ... ويجد معانى أن الاستقلال ليس مجرد الحصول على الاستقلال القانونى أو الشكلى ، ولكن توفير مقومات قدرة الدولة على ممارسة السيادة وحقها فى اتخاذ القرارات التى تخدم مصالحها دون إملاء من الخارج . لذلك اصطدم عبد الناصر مرة بالقوى الغربية ومرة أخرى مع الإتحاد السوفييتي..

وتقديرى أن إسم جمال عبد الناصر سوف يبقى إحدى منارات التاريخ المصرى الحديث ...رجل من الناس وهب حياته للشعب والوطن .. لم يتمتع بملذات الحياة وعاش نظيف اليد . وبعد وفاته قامت المخابرات الأمريكية بجهود حثيثة لكى تكتشف له حسابات فى بنوك خارجية أو تورطاً فى قضايا فساد مالى أو أخلاقى وانتهت بخفى حنين ... وكان أكثر ما يحرص عليه هو الكرامة للشعب . وأعتقد أن من أهم الكتب التى استطاعت التعبير عن هذا المعنى كتاب قديم صدر فى الستينيات من القرن الماضى للصحفى ويلتون وين الذى عمل رئيساً لمكتب مجلة التايم الأمريكية فى القاهرة وكان عنوان الكتاب «ناصر .. البحث عن الكرامة».

[ نقلاً عن مجلة الاذاعة والتليفزيون ]
تمت طباعة الخبر في: الجمعة, 02-مايو-2025 الساعة: 07:26 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.lahjnews.net/ar/news-8498.htm